تأليف – وحيد القرشي
سميرة أمراة مكافحة ومرحة,أبتسامتها وضحكتها لا تفارق وجهها ,تحدت بها الصعاب ,توفي زوجها وترك لها ولد وبنتين ,ورغم أنها كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها ,وما زالت صغيرة وفي ريعان شبابها ,وتستطيع الزواج مرة أخري ,ولكنها فضلت أن تعيش عمرها المتبقي في تربية وخدمة أبنائها ,فأبنها الأكبر رأفت في الصف الثاني الثانوي ,وبنتها الصغري رحاب ,في الصف الأول الاعدادي ,أما بنتها الاخري سعاد ,فشلت في التعليم ورسبت أكثر من مرة ,ولم تستطيع الحصول علي الشهادة الأبتدائية ,وفضلت رعاية البيت ومساعدة أمها ,فقد كان والدهم يشتغل بمهنة الخياطة ,ولم يترك لهم شئ ,وعندما توفي ,تحملت المسؤالية أمهم سميرة ,وأصبحت هي الاب والام وكل شئ لأبنائها ,فقد قامت بشراء بعض الخضروات والفاكهة ,وجلست أمام منزلها ,لبيعهم لجيرانها وأهالي قريتها ,حتي تستطيع تربية وتعليم أبنائها ,وتستطع مواجهة الحياة الصعبة ,فقد حرمت نفسها من كل شئ من أجل أبنائها ,وتمر السنين وينجح أبنها رأفت في الثانوية العامة ,ويدخل كليه الهندسة ,وقد أصبح في الفرقة الثانية في كلية الهندسة.
-قربت تتخرج يا رأفت وتساعدني ,وتشيل عني الحمل ,وأفرح بيك وبأخواتك .
-هانت يا أمي ,وأن شاء الله ,هعوضك عن الأيام ديها
وتدخل سميرة حجرتها ,التي تنام داخلها هي وبناتها سعاد ورحاب ,وترفع يدها بالدعاء ,وتطلب من الله ,أن ينجح أبنها ,وان يبارك في أبنائها ,وتفرح بهما ,وتبكي من هول الأيام ,فقد ظهرت عليها علامات الشيخوخة المبكرة ,من كثرة الهموم والحمل ,رغم انها ما زالت في سن صغير ,فملابسها دائما متهالكة ومرقعة وعف عليها الزمن ,ولم تشتري ملابس لها منذ أن توفي زوجها ,حتي الحذاء يعيش معها بالسنوات دون أن يتهالك ,ولكن ضحكتها وأبتسامتها الدائمة ,والتي تنير وجهها ,جعلت منها أمراة صلبة ,واجهت صعوبات الحياة بكل قوة ,فهي راضية بكل شئ في حياتها ,ولم تشتكي لأحد من أقاربها في يوم من الأيام ,فقد وفرت كل ما يحتاجه أبنائها ,ولم تحرمهم من شئ ,ولم تشعرهم بوفاة والدهم .وتمر السنوات ,ويصل أبنها رأفت للفرقة الأخيرة في كلية الهندسة ,وتسهر الليالي أمام حجرته ,رغم تعبها المتواصل أثناء النهارفي الجلوس امام منزلها,لبيع قفصين الخضار والفاكهة لجيرانها ,ورغم ذهابها مبكرا كل يوم للسوق لشراء هذه الخضروات , فلم تكل أو تمل ,ووقفت صلبة أمام كل هذه التحديات والصعوبات التي واجهتها ,فهي أمراة بمائه من الرجال ,وأفضل بكثير من بعض الرجال ,في عالمنا هذا ,وتبدء أمتحانات رأفت ,وتطلب من أبنتها سعاد ,رعاية مصالح البيت ,وتقوم أيضا بمهمة بيع وشراء قفصين الخضار ,لكي تتفرغ هي لخدمة أبنها ,كانت تجلس وتنام أمام باب حجرته ,فأجمل لحظات البهجة والسرور ,عندما تحس الأم بنجاح ولدها .
– يا سعاد خلي بالك من مصالح البيت ,وشوية الخضار ,الأ سترينا في الدنيا ,وانا هتفرغ لخدمة أخوكي ,علشان الأمتحانات يا بنتي
-والأ تشيلي هم يا ست الكل ,ربنا يخليكي لينا
– يوم نجاحي يا أمي ,نفسي أشوفك لابسه فستان جديد ,وتغيري الاسود دة .
-هيبقي يوم عيد علينا أن شاء الله,وانا صغيرة يا واد يا رأفت علشان ,ألبس فستان
– أنتي زي القمر ومنورة دنيتنا ,يا أجمل وأطيب أم في الدنيا
فخفة ظل سميرة وحلاوة وجمال روحها ,ملئت بهم البيت سعادة ومرح ,وواجهت بهم الحياة ,كانت لأبنائها الاب والام والاخ والصاحب وكل شئ في حياتهم ,فالأم تصنع الأمة,وليس في هذه الدنيا وسادة أنعم من حضن وحنان الأم ,والفقر والحرمان جعل منها جندي في معركة الحياة ,وأستطاعت أن تكسب الحياة ,فهي أمراة من حديد ,وقليل منها في هذا الزمن ,وجدنا في زماننا هذا ,أطفال لقط مرمين في أكوام القمامة ,والكثير من النساء تركن أولادهن ,للتمتع بلذة الحياة ,فالرحمة والحنان أن وجدوا في قلب أمراة تحدت بهم العالم ,ويمر يوم وراء يوم ,وسميرة تسهر في خدمة أبنها رأفت
– شد حيالك يا حبيبي ,وربنا هنجحك وتحقق حلمك أن شاء الله ,وأنا موجودة قدام باب أوضك ,أي حاجة هتعوزها ,أنده عليه ,هتلاقيني قدامك وتحت أمرك يا نور عيني
-ربنا ما يحرمنا منك يا أحن أم
فقد أعطتهم الحنان وشبعتهم منه ,وعلمتهم الحنية وأحترام الأم ,فقد كانوا يقبلون يد أمهم صباحا ومساءا ,ويلعبون ويمرحون معها في بيتهم الصغير ,فقد جعلت حياتهم تشع بالامل والنور والرضا ,فأبتسامتها وضحكتها الدائمة ,كانت تملئ أركان البيت ,وتبعث الأطمئنان والأمان في روح أبنائها ,وتنتهي الأمتحانات ,وبعد شهر ونصف تظهر النتيجة ,وقد ذهب رأفت لمعرفة نتيجته ,وتقف سميرة أمام باب منزلها ,بترقب وأنتظار
-ربنا ينجحك يا رأفت يا أبني ,ويرفع رأسك ,ويعلي مقامك يا رب
-أقعدي يا أمي وأهدي ,أن شاء الله هينجح
-أقعد كيف يا رحاب ,دة اليوم ألا مستنياه طول عمري ,روحي ساعدي أختك سعاد ,وأقعدي معاها علي قفصين الطماطم والبطاطس ,ربنا يرزقنا من فضله .
وبعد ساعتين يأتي رأفت ,وعلي وجه علامات الفرحة والسرور ,ويرتمي بقوة في حضن أمه الدافئ ,ويقول بصوت عالي ,نجحت يا أغلي أم ,نجحت يا ست الكل ,وتفرح وتبكي سميرة في وقت واحد ,وتزغرد وتملئ البيت فرحة ومرح وترقص هي وبناتها ,وقد جاء الجيران يباركون ,ويشاركونها فرحتها ,وقامت بتوزيع الشربات والحلوة علي جميع الجيران والأقارب ,وفي المساء ذهبت لقارئ القرية الكفيف الشيخ محمدين ,ليأتي معها للمنزل ,ويقرء أيات من القران ,تبركا ورحمة ,وقامت بدعوة أقاربها من الرجال للحضور ,يوما لن تنساه سميرة ,لقد فعلت كل شئ من أجل هذه اللحظات ,تحدت الصعوبات وواجهتها ,ولم تظهر تعبها لأبنائها ,فخفة روحها وضحكتها الدائمة ,جعلت منها أمراة حديدية ,وبعد أنتهاء مراسم حفلة سميرة المتواضعة ,تجلس وتفكر في كيفية السعي لوظيفة لأبنها رأفت ,وفي الصباح تذهب لكاتب شكاوي المظاليم بالقرية
– أذيك يا عمي حسين ,عاوز أطلب منك طلب
– أذيك يا سميرة يا بتي ,ولادك عاملين أيه ,خير يا بتي
ولادي بخير يا عمي حسين ,ما تعرفش حد يساعدني ويشغل رأفت أبني في شركة ,هو بقي مهندس معماري قد الدنيا
-ما شاء الله ,ربنا يباركلك فيه ,أنتي ست مكافحة وقليل ألا زيك يا بتي ,سبيني يومين يا سميرة ,لما أقابل عثمان بيه نائب الدايرة ,وربنا يقدم الخير أن شاء الله
– كله بوده يا عمي حسين ,شد حيالك معايه ,ربنا يبارك في عمرك وولادك
وبعد عشرة أيام تقريبا ,يأتي كاتب شكاوي المظاليم بالخبر السار ,وعندما لمحته سميرة وهي جالسة أمام منزلها كالعادة تبيع الخضار,جرت أليه مسرعة ,فهو يركب دراجتها ,وأمامه شنطة بها أوراق المظاليم ,ويرتدي قبعته الشهيرة علي رأسه .
– خير يا عمي حسين ,طمني
-خير يا بنتي ,كلمت عثمان بيه ,وفرح بنجاح أبنك ,وقال سميرة تستاهل كل خير ,وأنا أبن عمي عنده شركة مقاولات كبيرة في الاسكندرية ,هتصل بيه ,وخلي رأفت يجهز نفسه علشان يسافر ,وأدي الظرف دة لأبنك رأفت ,ياخده معاه وهو مسافر أسكندرية
– ربنا يبارك في عثمان بيه ,ويخليك لينا يا عمي حسين
وتقبل سميرة يد عمها حسين ,وتطلب منه أن يأخذ معهم وجبة الغداء,ولانه كان سمين ويحب الأكل ,فقد فرح ورحب بذلك .
– كل وأزغط يا رأفت ,وشد حيالك يا بني ,أمك كافحت عليكم وتعبت ,وجي اليوم ,الأ تردوا جزء من تعبها ,وتعوضوا تعب السنين
– أن شاء الله ,وشكرا يا جدي حسين ,علي وقفتك معانا ,وربنا يبارك في عثمان بيه ويكتر من أمثاله
ويجهز رأفت شنطة ملابسه ويستعد للسفر ,وقلب الام سميرة يتقطع علي فراق أبنها ,الا أنها كانت صلبة وشديدة ,حتي لا تشعره بشئ ,فأول مرة يبتعد أبنها عنها ولم تعتاد علي فراقه ,وقد جهزت له دكر من البط ,وزوجين من الحمام ,وفطاير وقصعة عسل .
– هعمل أيه بالاكل دة كله يا أمي ,كلها خمس ساعات وهكون في الأسكندرية
– كل يا حبيبي , ووكل كل الأ جنبك ,أنا ليه كام رأفت في الدنيا ,ربنا يسهل طريقك يا أبني
وتذهب معه لتوصيله ألي موقف الأتوبيس ,وأخذت معها سعاد ورحاب لتوديع أخوهم ,ويلتف ويلتحم الأخوة الثلاثة والأم في مشهد لن ينساه أحدا منهم طيلة حياته ,فقد أصبحوا كتلة واحدة ,ملتفون بذراعيهم والتي تحمي كل منهم الأخر ,وبالأحضان والقبلات والبكاء يغادر رأفت ,لتبدء حياته الجديدة مع العمل في الاسكندرية ,وترجع سميرة وبناتها ألي البيت ,ورغم الألم والحزن الذي يعصر قلبها ,وقفت صلبة كالعادة ,فأمامها حمل ثقيل ,فبناتها كبروا وأصبحوا في سن الزواج ,ويحتاجون للجهاز ومستلزمات العروسة ,وتمر السنين وينجح رأفت في عمله ,وكانت تقوم بزيارته أمه بين الحين والاخر ,وكل شهر يذهب رأفت في أجازة عشرة أيام لزيارة أمه وأخوته ,وأثناء جلوسهم علي مائدة العشاء
– كبرت وأحلويت يا بشمهندس ,وعاوزة أفرح بيك يا رأفت ,وهشوفلك عروسة من البلد ,أيه رأيك يا حبيبي
-بلد أيه يا أمي ,عاوزين نطلع من الفقر ,لسة هتزوجيني من البلد,وبعدين يا أمي ,انا مش أديتك فلوس علشان تشتري جلبية جديدة ,بدل المرقعة الأ لبساها ,وكفاية يا أمي بيع خضار ,أنا الحمد لله ,الأ عاوزينه هقوم بيه .
– أنا راضية بحالي يا أبني ,لسه قدامي حمل كبير ,أخواتك البنات ,شوف مستقبلك أنت يا حبيبي
– براحتك يا أمي ,بس ياريت ما تبعيش خضار ,وأستريحي وأقعدي في البيت
– قولت أيه في كلامي ,أشوفلك عروسة والأ ايه رأيك
– لا يا أمي ,انا هختار براحتي
– أوعي تكون عاوز تزوج من بنات مصر ,أحنا قدهم يا رأفت
– قدهم أزاي يا أمي ,أنتي نسيتي أني مهندس وليه وضعي
– ربنا يصلح حالك يا أبني ,ويرزقك ببنت الحلال والذرية الصالحة
وفي الصباح يودع رأفت أمه واخوته ,ليعود الي عمله في الاسكندرية ,وتدخل سميرة حجرتها وتغلق الباب عليها ,وتفكر في حال رأفت وكلامه ,فقد تغير وأصبحت عيشة أبوه وأمه لا ترضيه ,وتعالي علي بنات قريته ,ودخل الخوف والشك في قلب سميرة ,خوفا أن يتركها أبنها ويعيش بعيد عنها طيلة عمره ,فقد تغير قلبه ,وقد ينساها هي وأخوتها وينشغل بحياته ,فالبعيد عن العين بعيد عن القلب ,وبعد شهر تأتي أجازة رأفت ,وأثناء جلوس سميرة وبنتها سعاد أمام منزلها لبيع قفصين الخضار ,ينزل رأفت من التاكسي والذي أعتاد عليه لتوصيله من موقف الاتوبيس الي قريته ,بدل من ركوب سيارة الأجرة والشعبطة والألتحام بالبشر,وعندما رأي أمه علي حالتها المعتادة ,نظر أليها بغضب وذهب اليها مسرعا ,ونهرها وصرخ فيها بصوت عالي
– أيه يا أمي ,انا مش طلبت منك ,ما تبعيش خضار ,والأ عاوزة تموتيني ناقص عمر
– ليه يا أبني ,بتقول كدة
– أنتم مش حسين بيه ,أنا وضعي أتغير عن الأول ,ووضعكم ومنظركم كدة ,مش هينفع معايه ,وخليكم براحتكم ,أنا قررت أني أعيش و أتزوج وأستقر في أسكندرية ,ولو سمحتم مش عاوز حد يزورني
– بتستعار من أمك وأخواتك يا رأفت ,أوعي تنسا أن قفصين الخضار والفاكهة ,خلوك مهندس ,أوعي تنسا أن حرمت نفسي من الدنيا علشانك وعلشان أخواتك ,ليه يا أبني عملتلك أيه ,بتعذب فيه
– كلامي أنتهي ,وأنتم مش هتتغيروا أبدا ,كل شهر هبعت ليكم مبلغ
– لا يا بشمهندس ,مش محتاجين فلوسك ,وربنا يسامحك يا أبني